فصل: تفسير الآيات (56- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (49):

{لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)}
قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ} أي بالمطر. {بَلْدَةً مَيْتاً} بالجدوبة والمحل وعدم النبات. قال كعب: المطر روح الأرض يحييها الله به. وقال: {مَيْتاً} ولم يقل ميتة لان معنى البلدة والبلد واحد، قاله الزجاج.
وقيل: أراد بالبلد المكان. {وَنُسْقِيَهُ} قراءة العامة بضم النون. وقرأ عمر بن الخطاب وعاصم والأعمش فيما روى المفضل عنهما {نسقيه} بفتح النون. {مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً} أي بشرا كثيرا وأناسي واحده إنسى نحو جمع القرقور قراقير وقراقر في قول الأخفش والمبرد واحد قولي الفراء، وله قول آخر وهو أن يكون واحده إنسانا ثم تبدل من النون ياء، فتقول: أناسي، والأصل أناسين، مثل سرحان وسراحين، وبستان وبساتين، فجعلوا الياء عوضا من النون، وعلى هذا يجوز سراحي وبساتى، لا فرق بينهما. قال الفراء: ويجوز {أناسي} بتخفيف الياء التي فيما بين لام الفعل وعينه، مثل قراقير وقراقر. وقال: {كَثِيراً} ولم يقل كثيرين، لان فعيلا قد يراد به الكثرة، نحو {وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً}.

.تفسير الآية رقم (50):

{وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ} يعني القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة: قوله تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ}. وقوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي} وقوله: {اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}. {لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} أي جحودا له وتكذيبا به.
وقيل: {وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ} هو المطر. روى عن ابن عباس وابن مسعود: وأنه ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء، فما زيد لبعض نقص من غيرهم. فهذا معنى التصريف.
وقيل: {صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ} وابلا وطشا وطلا ورهاما- الجوهري: الرهام الأمطار اللينة- ورذاذا.
وقيل: تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات وسقى البساتين والغسل وشبهه. {لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} قال عكرمة: هو قولهم في الأنواء: مطرنا بنوء كذا. قال النحاس: ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر ها هنا قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا، وأن نظيره فعل النجم كذا، وأن كل من نسب إليه فعلا فهو كافر.
وروى الربيع بن صبيح قال: مطر الناس على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة، فلما أصبح قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أصبح الناس فيها رجلين شاكر وكافر فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه وأما الكافر فيقول مطرنا بنوء كذا وكذا».
وروى من حديث ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار».
وقيل: التصريف راجع إلى الريح، وقد مضى في البقرة بيانه. وقرأ حمزة والكسائي {ليذكروا} مخففة الذال من الذكر. الباقون مثقلا من التذكر، أي ليذكروا نعم الله ويعلموا أن من أنعم بها لا يجوز الاشراك به، فالتذكر قريب من الذكر غير أن التذكر يطلق فيما بعد عن القلب فيحتاج إلى تكلف في التذكر.

.تفسير الآيات (51- 52):

{وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)}
قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} أي رسولا ينذرهم كما قسمنا المطر ليخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نفعل بل جعلناك نذيرا للكل لترتفع درجتك فاشكر نعمة الله عليك. {فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ} أي فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم. {وَجاهِدْهُمْ بِهِ} قال ابن عباس بالقرآن. ابن زيد: بالإسلام.
وقيل: بالسيف، وهذا فيه بعد، لان السورة مكية نزلت قبل الامر بالقتال. {جِهاداً كَبِيراً} لا يخالطه فتور.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} عاد الكلام إلى ذكر النعم. و{مَرَجَ} خلى وخلط وأرسل. قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر. قال ابن عرفة: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي خلطهما فهما يَلْتَقِيانِ، يقال: مرجته إذا خلطته. ومرج الدين والامر اختلط واضطرب، ومنه قوله تعالى: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو بن العاصي: «إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وهكذا» وشبك بين أصابعه فقلت له: كيف أصنع عند ذلك، جعلني الله فداك! قال: «الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة» خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما.
وقال الأزهري: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} خلى بينهما، يقال مرجت الدابة إذا خليتها ترعى.
وقال ثعلب: المرج الاجراء، فقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي أجراهما.
وقال الأخفش: يقول قوم أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل بمعنى. {هذا عَذْبٌ فُراتٌ} أي حلو شديد العذوبة. {وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ} أي فيه ملوحة ومرارة.
وروى عن طلحة أنه قرئ {وهذا ملح} بفتح الميم وكسر اللام. {وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً} أي حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه، كما قال في سورة الرحمن {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ}. {وَحِجْراً مَحْجُوراً} أي سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر. فالبرزخ الحاجز، والحجر المانع.
وقال الحسن: يعني بحر فارس وبحر الروم.
وقال ابن عباس وابن جبير: يعني بحر السماء وبحر الأرض. قال ابن عباس: يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه. {وَحِجْراً مَحْجُوراً} حراما محرما أن يعذب هذا الملح بالعذب، أو يملح هذا العذب بالملح.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً} أي خلق من النطفة إنسانا. {فَجَعَلَهُ} أي جعل الإنسان {نَسَباً وَصِهْراً}.
وقيل: {مِنَ الْماءِ} إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء.
وفي هذه الآية تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك.
الثانية: قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين. قال ابن العربي: النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع، فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا، ولذلك لم يدخل تحت قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ} بنته من الزنى، لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين، وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا، فلا يحرم الزنى بنت أم ولا أم بنت، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام، لان الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما.
قلت: اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته أو بنت ابنه من زنى، فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون منهم عبد الملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي، وقد مضى هذا في النساء مجودا. قال الفراء: النسب الذي لا يحل نكاحه، وقاله الزجاج: وهو قول علي بن أبى طالب رضي الله عنه. واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته، فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها.
وقيل: الصهر قرابة النكاح، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الاحماء. والأصهار يقع عاما لذلك كله، قاله الأصمعي.
وقال ابن الاعرابي: الأختان أبو المرأة وأخوهما وعمها- كما قال الأصمعي- والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه.
وقال محمد بن الحسن في رواية أبى سليمان الجوزجاني: أختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته، وكل ذات محرم منه، وأصهاره كل ذى رحم محرم من زوجته. قال النحاس: الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي، وأن يكون من قبلهما جميعا. يقال صهرت الشيء أي خلطته، فكل واحد منهما قد خلط صاحبه. والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن لجهتين: إحداهما الحديث المرفوع، روى محمد ابن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أما أنت يا على فختني وأبو ولدي وأنت منى وأنا منك». فهذا على أن زوج البنت ختن. والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه، وكان الزوج قد انقطع عن أهله، وقطع زوجته عن أهلها.
وقال الضحاك: الصهر قرابة الرضاع. قال ابن عطية: وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر خمس.
وفي رواية أخرى من الصهر سبع، يريد قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ} فهذا هو النسب. ثم يريد بالصهر قوله تعالى: {وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}. ثم ذكر المحصنات. ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه، فقد أشار بما ذكر إلى عظمه وهو الصهر، لا أن الرضاع صهر، وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه. ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات، وهن ذوات الأزواج. قلت: فابن عطية جعل الرضاع مع ما تقدم نسبا، وهو قول الزجاج. قال أبو إسحاق: النسب الذي ليس بصهر من قوله جل ثناؤه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} والصهر من له التزويج. قال ابن عطية: وحكى الزهراوي قولا أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات. قلت: وذكر هذا القول النحاس، وقال: لان المصاهرة من جهتين تكون.
وقال ابن سيرين: نزلت هذه الآية في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى رضي الله عنه، لأنه جمعه معه نسب وصهر. قال ابن عطية: فاجتماعهما وكاده حرمة إلى يوم القيامة. {وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً} على خلق ما يريده.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)}
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} لما عدد النعم وبين كمال قدرته عجب من المشركين في إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضر، أي إن الله هو الذي خلق ما ذكره، ثم هؤلاء لجهلهم يعبدون من دونه أمواتا جمادات لا تنفع ولا تضر. {وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً} روى عن ابن عباس {الْكافِرُ} هنا أبو جهل لعنه الله، وشرحه أنه يستظهر بعبادة الأوثان على أوليائه.
وقال عكرمة: {الْكافِرُ} إبليس، ظهر على عداوة ربه.
وقال مطرف: {الْكافِرُ} هنا الشيطان.
وقال الحسن: {ظَهِيراً} أي معينا للشيطان على المعاصي.
وقيل: المعنى، وكان الكافر على ربه هينا ذليلا لا قدر له ولا وزن عنده، من قول العرب: ظهرت به أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه. ومنه قوله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أي هينا.
ومنه قول الفرزدق: تميم بن قيس لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا على جوابها هذا معنى قول أبى عبيدة. وظهير بمعنى مظهور. أي كفر الكافرين هين على الله تعالى، والله مستهين به لان كفره لا يضره.
وقيل: وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويا غالبا يعمل به ما يشاء، لان الجماد لا قدرة له على دفع ضر ونفع.

.تفسير الآيات (56- 57):

{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)}
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} يريد بالجنة مبشرا ونذيرا من النار، وما أرسلناك وكيلا ولا مسيطرا. {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} يريد على ما جئتكم به من القرآن والوحى. و{مِنْ} للتأكيد. {إِلَّا مَنْ شاءَ} لكن من شاء، فهو استثناء منقطع، والمعنى: لكن من شاء {أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا} بإنفاقه من ماله في سبيل الله فلينفق. ويجوز أن يكون متصلا ويقدر حذف المضاف، التقدير: إلا أجر {مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا} باتباع ديني حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58)}
قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} تقدم معنى التوكل في آل عمران وهذه السورة وأنه اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزه الله تعالى عما يصفه هؤلاء الكفار به من الشركاء. والتسبيح التنزيه. وقد تقدم.
وقيل: {وَسَبِّحْ} أي صل له، وتسمى الصلاة تسبيحا. {وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً} أي عليما فيجازيهم بها.

.تفسير الآية رقم (59):

{الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)}
قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم في الأعراف. و{الَّذِي} في موضع خفض نعتا للحي. وقال: {بَيْنَهُما} ولم يقل بينهن، لأنه أراد الصنفين والنوعين والشيئين، كقول القطامي: ألم يحزنك أن حبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاء أراد وحبال تغلب فثنى، والحبال جمع، لأنه أراد الشيئين والنوعين. {الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} قال الزجاج: المعنى فاسأل عنه. وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة أن الباء تكون بمعنى عن، كما قال تعالى: {سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} وقال الشاعر:
هلا سألت الخيل يا بنة مالك ** إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

وقال علقمه بن عبدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ** خبير بأدواء النساء طبيب

أي عن النساء وعما لم تعلمي. وأنكره علي بن سليمان وقال: أهل النظر ينكرون أن تكون الباء بمعنى عن، لان في هذا إفسادا لمعاني قول العرب: لو لقيت فلانا للقيك به الأسد، أي للقيك بلقائك إياه الأسد. المعنى فاسأل بسؤالك إياه خبيرا. وكذلك قال ابن جبير: الخبير هو الله تعالى. ف {خَبِيراً} نصب على المفعول به بالسؤال. قلت: قول الزجاج يخرج على وجه حسن، وهو أن يكون الخبير غير الله، أي فاسأل عنه خبيرا، أي عالما به، أي بصفاته وأسمائه.
وقيل: المعنى فاسأل له خبيرا، فهو نصب على الحال من الهاء المضمرة. قال المهدوي: ولا يحسن حالا إذ لا يخلو أن تكون الحال من السائل أو المسئول، ولا يصح كونها حالا من الفاعل، لان الخبير لا يحتاج أن يسأل غيره. ولا يكون من المفعول، لان المسئول عنه وهو الرحمن خبير أبدا، والحال في أغلب الامر يتغير وينتقل، إلا أن يحمل على أنها حال مؤكدة، مثل: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} فيجوز. وأما {الرَّحْمنُ} ففي رفعه ثلاثة أوجه: يكون بدلا من المضمر الذي في {اسْتَوى}. ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هو الرحمن. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً}. ويجوز الخفض بمعنى وتوكل على الحي الذي لا يموت الرحمن، يكون نعتا. ويجوز النصب على المدح.